
نيوزويك، 23 يونيو 2009
(ثمة شبح يلازم العالم, ألا وهو عودة الرأسمالية)...هكذا استهل فريد زكريا موضوع الغلاف الأخير لأسبوعية نيوزويك، تمهيدًا للحديث عن صحوة يراها بدأت تدب في أوصال هذه النظرية المالية التي اعتبرها الكثيرون قد قضت نحبها، قائلا: "إن الرأسمالية الأمريكية تشهد إعادة توازن وإعادة تنظيم وبالتالي إعادة إحياء. ولكي يؤدي ذلك إلى نهوض فعلي، وليس فقط إلى فترة استراحة وجيزة؛ سيتوجب على الرأسمالية الأمريكية في خضم ذلك أن تواجه مشاكل لطالما تم تجاهلها".
على مرّ الأشهر الستة الماضية، كان السياسيون ورجال الأعمال والخبراء مقتنعين بأننا في وسط أزمة رأسمالية سيتطلب تخطيها تغييرات كبيرة وسنوات طويلة من الألم، وبأن شيئا لن يعود إلى سابق عهده. فقد كتب عميد المعلقين الماليين "مارتن وولف" في صحيفة فايننشال تايمز: لقد سقط إله أيديولوجي آخر. وقال الرئيس التنفيذي لشركة جنرال إلكتريك "جيفري إيميلت" إن الشركات ستُغيِّر بشكل جذري طريقة عملها. كما أن قال وزير الخزانة "تيموثي غايتنر": الرأسمالية ستصبح مختلفة.ما من نظام اقتصادي يبقى على حاله بالطبع، لاسيما بعد حدوث انهيار مالي حاد وركود عالمي واسع النطاق. لكن خلال الأشهر القليلة الماضية، وعلى الرغم من أن الخطة التحفيزية كانت منقوصة، ومن أننا لم نؤمم أي بنوك ولم نشهد تغييرا جذريا للرأسمالية، يبدو أن حدة الهلع بدأت تخف. لعل هذا وَهْم, أو قد تكون الإجراءات التي اتخذتها الدول في أنحاء العالم، لاسيما الحكومة الأمريكية، أعادت الأمور إلى طبيعتها. لكل خبير انتقاداته تجاه سياسات معينة، لكن مع مرور الوقت، قد نرى أن معظم الحكومات اختارت الإفراط في ردة فعلها عندما كان أمامها خياران: إما إبداء ردة فعل ضعيفة أو الإفراط في ردة فعلها. هذا الخيار قد يؤدي إلى مشاكل جديدة في المستقبل، لكن يبدو أنه حال دون حصول انهيار شامل.لايزال الطريق طويلا. وسيحصل الكثير من الإفلاسات الأخرى. وسيتوجب على البنوك أن تتجاوز مشاكلها ببطء أو أن تنهار. وسوف يدخر المستهلكون المزيد من الأموال قبل أن يبدأوا بالإنفاق من جديد. وسيتوجب الحد من الديون الهائلة.
الكثير من الخبراء مقتنعون بأن الوضع لا يمكن أن يتحسن بعد لأنه لم يتم اعتماد الحلول الشاملة التي تقدموا بها لحل المشكلة. معظمنا يريد فرض عقاب أكثر قساوة، لاسيما على المصرفيين الأمريكيين. ففي أعماقنا، لدينا جميعا اعتقاد متزمت بأنهم إذا لم يشعروا بمقدار كبير من الألم، لن يتوبوا حقا. في الواقع، كان الشعور بالألم كبيرا، لاسيما في القطاع المالي، حيث خسر عشرات الآلاف، في جميع المستويات، وظائفهم. لكن الأسواق لا تكترث للأخلاقيات. إنها أنظمة ضخمة ومعقدة، وإن استقرت الأمور بما يكفي، ستمضي قدما.
وعلى الرغم من غرابة الأمر، توقع زكريا أنه بعد بضع سنوات، قد نجد أننا جميعًا متعطشون للمزيد من الرأسمالية وليس العكس؛ فالأزمات الاقتصادية تبطئ النمو، وعندما تكون البلدان بحاجة إلى النمو، تلجأ إلى الأسواق. مستشهدًا بأزمتي العملات في المكسيك وشرق آسيا ـ اللتين كانتا مؤلمتين في تلك البلدان أكثر بكثير من التباطؤ الحالي في أمريكا ـ ورغم ذلك شهدتا تسارعا في وتيرة الإصلاحات في السوق.
في السنوات المقبلة، إن بقي المستهلك الأمريكي مترددا في الإنفاق، وإن رزحت الحكومة الفيدرالية وحكومات الولايات تحت وطأة ديونها الكبيرة، وإن بقيت الشركات التي تملكها الحكومة تشكل أعباء مُكلِفة، عندئذ ستصبح الحركة في القطاع الخاص المسار الوحيد نحو استحداث الوظائف. الحقيقة هي أنه على الرغم من كل عيوب الرأسمالية، فهي لاتزال المحرك الاقتصادي الأكثر إنتاجية الذي اخترعناه. ومثلما قال تشرتشل عن الديموقراطية، فإن الرأسمالية هي أسوأ الأنظمة الاقتصادية، باستثناء كل الأنظمة الأخرى.
أفضل دفاع عنها اليوم أتى من الطرف الآخر من العالم، حيث تمكنت بلدان مثل الصين والهند من النمو وانتشال مئات ملايين الناس من الفقر من خلال دعمها للأسواق والتجارة الحرة.
لقد كتب القطب البريطاني "مارتن سوريل" حديثا: الرأسمالية أخفقت، أو بشكل أدق، الرأسماليون هم الذين أخفقوا. لكن هذا غير صحيح في الحقيقة. فالقطاع المالي هو الذي أخفق، أو بشكل أدق، الخبراء الماليون.
نحن في وسط أزمة كبيرة، واللائمة تقع على الجميع ويجب إصلاح الكثير من الأمور، بدءا من النظام الدولي وصولا إلى الحكومات الوطنية والشركات الخاصة. لكن في الصميم، هناك حاجة إلى إصلاح أعمق في داخلنا، وإلى تحكيم الضمير بكل بساطة. إن لم يبد الأمر صائبا، علينا ألا نفعله. هذا لن يعيد النمو أو يُصلِح العولمة أو ينقذ الرأسمالية، لكنه قد يكون خطوة صغيرة للتوصل إلى نظام سليم.
No comments:
Post a Comment