برنامج موضوع الغلاف، يذاع على شاشة قناة المجد الفضائية
مدونةٌ حَوَتْ دُررًا بعين الحُسنِ ملحوظة ... لذلك قلتُ تنبيهًا حقوق النشر محفوظة

Tuesday, December 30, 2008

عـقــيــدة مــيـدفـيــديـف


نيوزويك، 2 ديسمبر 2008


بعد ستة أشهر من تسلمه منصبه في الكرملين، لازالت الإشارات التي يرسلها الرئيس الروسي مشوشة جدا، إلى درجة أنه أثار حيرة صانعي السياسات والدبلوماسيين الغربيين، ودفع أسبوعية نيوزويك إلى التساؤل: (ماذا يريد ديميتري ميدفيديف بالضبط؟).
عقيدة ميدفيديف، كما تراها المجلة لأميركية، هي بمنزلة خطة طموحة لإصلاح المجتمع الروسي المحطم في الداخل، واستعادة مكانة روسيا في العالم. ويعتبر ميدفيديف أن إحدى الطرق للقيام بذلك هي أن يجري على الأقل استبدالُ بعض من التأثير الأمريكي في أوروبا بتأثير روسي؛ من خلال مزيج من التهديدات العسكرية واستعمال احتياطي الغاز الضخم الذي تملكه روسيا لممارسة الضغوط.
من الواضح أن أهداف ميدفيديف، الطموحة إلى حد كبير، تطورت انطلاقا من الخطة التي وضعها بوتين منذ وقت طويل؛ وتهدف إلى استعادة عظمة روسيا، في الداخل والخارج. وهذا ليس مفاجئا بما أن بوتين لا يزال يقود روسيا من المقعد الخلفي انطلاقا من منصبه كرئيس للوزراء، ومن المتوقع على نطاق واسع أن يعود إلى الرئاسة بعد انقضاء فترة مقبولة.
لكن هناك اختلافات واضحة بين الرجلين؛ فقد كان بوتين يستعمل لغة الديموقراطية والليبرالية عندما تناسبه، كي يساوي أخلاقيا - على سبيل المثال - بين التصرفات الأمريكية في كوسوفا والعراق والسياسة الروسية في جورجيا. أما ميدفيديف، وهو محام ترعرع في ساينت بيترسبرغ الليبرالية في حقبة الانفتاح والشفافية، فقد تبنى أسلوبا أكثر انفتاحا وعصرية.
ولعل الأهم على الإطلاق هو أن ميدفيديف يعي تماما المشاكل التي تواجهها روسيا، ولا يخشى التحدث عنها.
في عهد بوتين، ظل النمو الاقتصادي السنوي ثابتا عند حدود 7 بالمائة، بفضل ارتفاع أسعار النفط التي تضخ الدم في عروق الاقتصاد الروسي. لكن بدا أن بوتين لا يهتم كثيرا بتنويع الاقتصاد أو كبح الفساد الذي يجعل ريادة الأعمال مستحيلة، بل ومحفوفة بالمخاطر. في المقابل، كانت إحدى أبرز الخصائص في خطب ميدفيديف انتقاداته الجريئة للقضاء والبيروقراطية الفاسدَيْن في روسيا، مع العلم بأنه يتوخى دائما الحذر الشديد كي لا يوحي أبدا بأن بوتين أخطأ عندما لم يعالج هذه المشاكل في وقت سابق. وقد ألقى ميدفيديف في خطبه اللوم على البيروقراطيين؛ لأنهم "يشككون في المبادرة الحرة تماما كما كانوا يفعلون في ظل النظام السوفييتي"، ولأنهم يتحكمون في وسائل الإعلام ويتدخلون في الانتخابات، وقد يبدو غريبا أن يصدر مثل هذا الكلام عن شخص أفاد كثيرا من سيطرة الدولة على الصحافة وصناديق الاقتراع على السواء، لكنه انتقاد حاد لمكامن الخلل في روسيا.
وفي العلاقات الخارجية، حرص ميدفيديف على تفادي الظهور وكأنه أضعف من بوتين. فقد كان الأخير يتحدث في عهده عن "عالم متعدد الأقطاب"، لكن في عهد ميدفيديف، وضعت روسيا يدها على القانون الدولي وتقدمت الدبابات الروسية نحو أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا. وبذلك أعاد الكرملين ضمنا تأكيد حق روسيا الإمبريالي بأن تصنع - وتبتلع - دولا من خلال الاعتراف بالجمهوريات الجورجية المنفصلة.
لكن على الرغم من الكلام الكبير الذي يطلقه ميدفيديف، ترى المجلة أنه ليس واضحا على الإطلاق ما إذا كان بالإمكان تحقيق أي من أهدافه الاستراتيجية الكبرى، فنظرا إلى الاستياء الشديد من الغرب وعدم الثقة به، ليست لدى ميدفيديف نماذج كثيرة يستطيع أن يقتدي بها في سعيه إلى تحقيق أهدافه الاقتصادية. وتختصر المجلة ذلك بقولها: "لقد قال ميدفيديف كلاما جيدا، لكن لم تكن هناك متابعة ملموسة"، مستدلة بما أسمته "الوضع المحرج" الذي يحياه ميدفيديف الآن؛ فالطموحات التي بدأ بها رئاسته لم تعد تتناسب مع واقع الوضع الروسي الذي يزداد هشاشة.
بالتأكيد ليست هناك أي ناحية إيجابية في نبذ روسيا جملة وتفصيلا، وإذلالها ومعاملتها وكأنها دب من ورق. ففي حقبة تشهد تراجعا في أسعار النفط ومحنة اقتصادية، تجد روسيا نفسها في مأزق فجأة، وسوف يواجه ميدفيديف قريبا إغراء السيطرة على الاقتصاد الروسي وقمعه، وتثبيت الأسعار، وتهديد رجال الأعمال، وتوجيه تدفق الرساميل. وقد تراوده نفسه أيضا بأن يكرر مغامرته العسكرية في جورجيا لإلهاء الرأي العام عن الوضع الداخلي الذي يزداد سوءا، وربما يقع شجار مع أوكرانيا حول كريميا، ومن شأن الأمرين أن يكونا كارثييْن.
لا يستطيع ميدفيديف أن يصلح العالم على صورة الكرملين، وعلى الأرجح أنه لن تصمد سوى أجزاء قليلة جدا من عقيدته في وجه الانكماش الاقتصادي الروسي. لكن يبدو على الأقل أنه يؤمن فعلا بأن "الحرية أفضل من اللاحرية"، وربما يبذل مجهودا أكبر من أي قائد روسي سابق لدمج البلاد في الاقتصاد العالمي، ووضع حد لما أسماه "العدمية القانونية" التي تتفشى في بلاده. إذا نجح في هذه الإصلاحات العملية مثل كبح البيروقراطية النهمة والفاسدة في روسيا وتطبيق سيادة القانون، فقد يجعل بلاده أكثر ثراءً ويسمح لها بأن تعمل بفعالية أكبر. من شأن اقتصاد حقيقي مزدهر وعلاقة جديدة وبناءة مع الغرب أن يجعلا روسيا تتمتع بنفوذ حقيقي أكبر مما توفره لها كل التهديدات الاستقوائية باستعمال الصواريخ.

No comments: